الاتجاه - مقالات 

بقلم: عبد الهادي مهودر

تنتاب العراقيين حَيرة واستغراب شديدين عن واقع النخلة ومستقبلها في بلاد الرافدين ، وعن تراجع اعدادها ، فما عُرفت ارض العراق بأنها ارض السواد إلا لكثرة بساتين النخيل ، التي كانت بالنسبة لنا  كتلاميذ في المرحلة الابتدائية اجمل واسهل منظر طبيعي ، حين يكون الدرس ( إرسم منظراً طبيعياً تحبه) وكأنها رسمة من القلب ، جذع وسعفات خضر وعذق تمر ، (و ياعثگنا ، وياعشگنا ) لأقرب اشجار الارض الى قلوبنا، عمتنا الساكنة في الجنة الواجب اكرامها والإكثار منها ، ومع كل هذا الحب والتكريم الذي ندّعيه فنحن نقطع رؤوس النخيل ونسقي جذورها نفطاً اسود لتموت النخلة واقفة تشكو حالها وترفع آخر سعفتين متيبستين نحو السماء من ظلم ذوي القربى ومن الاعتماد على النفط ( كمعيل وحيد ) للدولة والعائلة العراقية.

وللنخلة والجيران حكاية عراقية عجيبة وحزينة قبل أن تكون رواية ادبية عراقية ، اليكم ملخصها : في  عام ١٩٥٨ كان العراق الدولة الاولى بترتيب دول الجوار والعالم حسب عدد النخيل الذي بلغ نحو ٣٢ مليون نخلة تقريبا ، عندما كان عدد النخيل في العالم ٨٧ مليون نخلة ، متفوقاً ثلاثة اضعاف على عدد النخيل في ايران واربعة اضعاف على باكستان تليها الجزائر والمغرب وبقية الدول العربية ثم اسبانيا وامريكا وبقية دول العالم ، في وقت كان عدد نفوس العراق أقل من سبعة ملايين نسمة أي بمعدل اربع نخلات لكل مواطن عراقي تقريبا ، لا اقول غير يا للهول أمام لغة الارقام ، فقد كانت المساحة المزروعة بالنخيل نحو مليار وخمسمئة مليون متر مربع وتشكّل ٤٠٪؜ من الانتاج العالمي ، ومتوسط انتاج النخلة المثمرة يبلغ اكثر من اربعين كيلوغراما في السنة الواحدة ومعدل انتاجها السنوي يصل الى اربعمئة الف طن ، وعدد الفلاحين ثمانمئة وثلاثون الف عامل اضافة الى اربعين الف عاملة في صناعة التمور ، ونحو خمسين من الشركات والتجار المصدرين ، فيما يبلغ عمر النخلة الواحدة بين ١٠٠ الى ٢٠٠ سنة وطولها بين ٢٠ الى ٣٠ مترا ، وارقام مذهلة اخرى جعلت من التمر العراقي صورة غلاف تتصدر المجلات العربية بعنوان ( قصة ٣٢ مليون نخلة تنتج احلى تمور العالم ) حين كان تمر العراق مثل القطن لمصر والتفاح للبنان ، كما جاء في مقدمة التحقيق الصحفي الذي نشرته مجلة العربي الكويتية في عددها (رقم واحد من شهر كانون الاول عام ١٩٥٨) وعذرا لكثرة الارقام في هذا المقال ، لكني كمواطن عراقي حَيرانٌ وعندي لوعةٌ وانت مثلي حيران والناس حيارى في عدد النخيل اليوم وعدد الاشجار الاخرى ومساحات المناطق الخضراء في الوقت الذي تهب على بلاد الرافدين عواصف ترابية خانقة ، ومع تراجع زراعة النخيل وتجريف البساتين المستمر وتراجع المساحات الخضراء ، قد تكون احصائيات اكثر المتفائلين بمستقبل غير زاهر للنخلة العراقية وبأربع عواصف ترابية لكل مواطن بدل الاربع نخلات .