الاتجاه – مقالات 

بقلم: منى فرح

إذا قررت إسرائيل المضي في حرب مفتوحة ضد غزة، واجتاحت القطاع تكون كمن "يصب الزيت على النار". فإستعادة "الردع" بعد "طوفان الأقصى" يتطلب منها أولاً الإستعداد لتكبد خسائر في الأرواح بما يكفي لجعل "حماس" وأمثالها يخافون منها. كما سيضعها في مستنقع من التحديات الجسيمة لا تبدأ بإدارة أمور مليوني فلسطيني معادي لها، ولن تتوقف عند انتفاضة ثالثة مرتقبة في الضفة العربية، وقد لا تنتهي بإرباك دبلوماسي يعيق مشاريع التطبيع، لا سيما مع وجود عشرات، وربما مئات الرهائن الإسرائيليين، بحسب "فورين أفيرز".

أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الحرب على قطاع غزة، وهو يهدد باجتياح بري بهدف وقف انهمار آلاف الصواريخ التي تسقط على إسرائيل، وتشعل سماء تل أبيب وغيرها من المدن. يريد نتنياهو القول إن الأولوية الآن هي للدفاع عن إسرائيل وحماية قواعدها العسكرية من الهجمات المفاجئة والمدمرة التي يشنها مقاتلو الفصائل الفلسطينية.. وأن الهدف هو “اجتثاث” المسلحين الفلسطينيين، ومنعهم من التسلل إلى داخل المستوطنات اليهودية وتهديد أمن الإسرائيليين .. إلخ. نظراً لضخامة ودقة الهجمات التي نفذها مقاتلو الفصائل الفلسطينية، ونظراً لحجم الصدمة التي تشعر بها إسرائيل اليوم، فإن أياً من هذه المهام التي يعد بها نتنياهو لن تكون سهلة. وحتى إذا نجحت إسرائيل في توجيه ضربة قاسية للفلسطينيين، فإنها تواجه خيارات صعبة بشأن ما يجب أن تفعله بعد ذلك لضمان إضعاف حركة “حماس” والفصائل الفلسطينية المعادية، وضمان عدم تعرضها لعملية عسكرية مماثلة لـ”طوفان الأقصى”. يتعين على القادة الإسرائيليين أولاً أن ينجحوا في إعادة ترسيخ مفهوم قوة “الردع”، مع الحرص على منع تفجر انتفاضة جديدة في الضفة الغربية، وضمان حماية المكاسب الدبلوماسية الأخيرة التي حققتها إسرائيل من خلال صفقات التطبيع. والأهم من هذا وذاك معرفة كيفية إدارة قضية الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وغيرهما. معضلة غزة ربما يكون السؤال الأكبر هو: ماذا يجب أن تفعله إسرائيل بشأن قطاع غزة؟ منذ تسلمت “حماس” السلطة في القطاع، في عام 2007، تجنبت إسرائيل شن عمليات برية واسعة النطاق هناك، وتجاهلت نداءات الكثيرين من السياسيين الإسرائيليين ـ خلال الأزمات الماضية ـ  بـ”ضرورة” اتخاذ إجراءات على نمط “غزو كامل”، أو “غزو جزئي” للقطاع. ففي عام 2018؛ على سبيل المثال؛ استقال وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، أفيغدور ليبرمان، احتجاجاً لأن إسرائيل قبلت التفاوض على هدنة مع “حماس”. ومع ذلك، يشير القادة العسكريون الإسرائيليون إلى أن أي محاولة لإقتلاع “حماس” من قطاع غزة “سوف تكون في غاية الصعوبة، لا بل الإستحالة”. فالحركة تسيطر بشكل كامل وقوي، ليس فقط عسكرياً وأمنياً، بل وأيضاً اقتصادياً واجتماعياً. فعلاقاتها مع الأهالي قوية، وهي تدير المستشفيات والمساجد والمدارس وحتى أجهزة الشرطة، وتلتف حولها مجموعات كبيرة من الشباب. قبل صباح السبت الماضي (7 تشرين الأول/أكتوبر)، كان بوسع القادة الإسرائيليين أن يزعموا أن الضربات الجوية العرضية التي ينفذها الطيران الحربي الإسرائيلي والضغوط الاقتصادية التي تمارسها تل أبيب؛ ومعها حكومات العديد من دول العالم؛ أبقت “حماس” في حالة من عدم التوازن، وفي وضع يجعلها غير قادرة على تشكيل تهديد كبير لإسرائيل. هذه الحجة لم يعد لها أي وزن يُذكر بعد عملية “طوفان الأقصى”. بالطبع تستطيع إسرائيل أن تستمر بشن غارات على القطاع وتمطر أحيائه بنيران صواريخها؛ كما تفعل وستفعل؛ ولكن كل هذا لن يوقف الهجمات الفلسطينية ولن يزعزع “حماس” أو يُضعف قبضتها على القطاع. أضف إلى ذلك، أنه وبرغم الرأي العام الدولي (وخصوصاً الأميركي) المتعاطف مع إسرائيل، فإن كل يوم قصف يمر من دون رد فعل كبير من “حماس” من شأنه أن يقوّض الدعم الدولي لعمليات الجيش الإسرائيلي. على المدى القصير، قد تستطيع إسرائيل تحقيق بعض المكاسب ضد “حماس” وغيرها من الفصائل المعادية لها من خلال إرسال جيشها لاحتلال القطاع بالكامل أو جزء منه. قد تنجح وتُفقد “حماس” سيطرتها على السكان، وقد يتسنى لجيشها جمع معلومات استخباراتية بطريقة أو بأخرى، واعتقال قادة ومسؤولين في “حماس” وقتل أو أسر أعداد كبيرة من أعضاء الحركة، وتدمير الأنفاق ومخازن الأسلحة، وتعطيل طرق التسلل من القطاع إلى إسرائيل.

كل هذا قد يُضعف “حماس” ويقلل من التهديد الذي تشكله على المدى القصير. لكن التوغل البرّي يحمل في طياته مخاطر كبيرة. فالتضاريس الحضرية الكثيفة في المنطقة تشكل عائقاً كبيراً وتخلق احتمالية هائلة لسقوط ضحايا من المدنيين. على سبيل المثال، خلال عملية “الجرف الصامد”، التي شنتها إسرائيل في عام 2014، قتل 66 جندياً إسرائيلياً، و6 مدنيين إسرائيليين، وأكثر من 2000 فلسطيني (أغلبهم من المدنيين)، برغم أن القوات الإسرائيلية توغلت على بعد أميال قليلة فقط داخل القطاع. عملية “الجرف الصامد” لم تمنع الفلسطينيين من مواصلة حفر آلاف الأنفاق وفي معظم أنحاء القطاع، وهم يستخدمونها الآن لتنفيذ المزيد من الهجمات المفاجئة واحتجاز المزيد من الجنود والمدنيين الإسرائيليين كرهائن. هذا يعني أن الكارثة السياسية الحالية التي تعيشها إسرائيل اليوم ستتحول إلى كابوس أكبر. قد تسعى إسرائيل كذلك إلى تغيير الوضع السياسي في غزة، إذا وجدت من تستبدل بهم سلطة “حماس” لإدارة أمور القطاع. لكنها تفتقر إلى شريك سياسي تثق به على الجانب الفلسطيني. صحيح أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وأتباعه على خلاف مع “حماس”، ويساهمون من وقت لآخر في قمع نشاطاتها في الضفة الغربية، ولكن تأييد الشارع الفلسطيني لهم ضعيف جداً. فسُمعة السلطة الفلسطينية لدى الشارع الفلسطيني مشوهة جداً بسبب تعاونها مع إسرائيل على مدى عقود، والفساد المستشري، وأسلوب القيادة البعيد عن الواقع الذي تتبعه. أضف إلى ذلك أن قادة السلطة الفلسطينية لن يقبلوا أن يصلوا إلى السلطة في غزة عن طريق ركوب الدبابات الإسرائيلية، فهذا الأمر من شأنه أن يقضي على ما تبقى لها من ماء الوجه ويحرق ما تبقى لديها من أوراق اعتماد وطنية قليلة. خُلاصة القول إن أي تفكير بغزو برّي، بهدف الإطاحة بـ”حماس”، من شأنه أن يترك إسرائيل عالقة في مستنقع من المشاكل ومجبرة على التعامل مع كم هائل من التحديات الجسيمة، ليس أقلها إدارة القطاع، والتعامل مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعاني منه سكان غزة، وطبعاً تحمل مخاطر التواجد وسط بيئة كثافة سكانية هائلة؛ 2 مليون فلسطيني جميعهم معادون لإسرائيل. إذا مضت إسرائيل في حرب طويلة ضد قطاع غزة ستسبب لنفسها إرباكاً دبلوماسياً حقيقياً، خصوصاً في موضوع تطبيع العلاقات مع السعودية. فقبل “طوفان الأقصى” كانت إسرائيل تأمل في أن تطلب الرياض منها تنازلات “رمزية” فقط في القضية الفلسطينية. ولعل القيادة السعودية كانت لتتخذ مثل هذا النهج عندما كانت تضع القضية الفلسطينية في آخر سلم اهتماماتها، وتريد من الرأي العام السعودي التركيز على الإنجازات التي تعد بها “رؤية 2030”- التي يديرها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان- وتأمل بأن تثير اهتمام الرأي العام العربي والإسلامي والدولي إلى تلك “الخطة”.

لكن مع تصاعد المواجهات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا تستطيع السعودية أن تبدو ضعيفة وغير مبالية تجاه هذه القضية. والبيان الذي أصدرته وزارة الخارجية السعودية، يوم السبت الماضي، ينذر بتوتر دبلوماسي بين الرياض وتل أبيب، فالبيان يُحمّل “استمرار الاحتلال الاسرائيلي، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وتكرار الاستفزازات المنهجية ضد مقدساته” مسؤولية ما يحدث اليوم. برغم كل هذه المشاكل، وجد القادة الإسرائيليون أنفسهم مجبرين على إعلان الحرب وشن هجمات “انتقامية”. إن حجم الخسائر الهائلة التي أوقعتها فصائل المقاومة الفلسطينية في الجانب الإسرائيلي يجعل العودة إلى أي شيء يقترب من الوضع الذي كان قائماً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر يبدو وكأنه انتصار لـ”حماس”. لدى الساسة الإسرائيليين تاريخ من التفكير القصير الأمد. الإنتفاضة الثالثة على الأبواب سيكون على إسرائيل أيضاً مهمة ضمان بقاء الضفة الغربية هادئة نسبياً، خصوصاً إذا شنَّت توغلاً برياً في غزة. فكل العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة ضد القطاع كانت تترافق مع تظاهرات تأييد وتضامن واستنكار في عموم مدن وقرى الضفة الغربية. وفي هذه الأيام بالتحديد، تعيش الضفة بالفعل حالة من الاضطراب وسط أحاديث عن التحضير لانتفاضة ثالثة. خلال العامين 2021 و2022، شهدت المنطقة مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وخلال العام الجاري قتل ما يقرب من 200 فلسطيني على أيدي الإسرائيليين حتى الآن. ويعزى جزء من المواجهات والتوتر الذي تشهده مدن الضفة في الآونة الأخيرة إلى توسع المستوطنات الإسرائيلية، والاعتداءات التي ينفذها المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين بالإضافة إلى سياسة السلطة الفلسطينية وأدائها الضعيف. إن الرد الإسرائيلي العنيف على الهجمات التي نفذتها “حماس” والفصائل الفلسطينية الأخرى يصبُّ الزيت على النار. نجاح هجمات الفصائل يشكل مصدر إلهام للفلسطينيين الغاضبين بالفعل من وجود الاحتلال وممارساته ضدهم على مدى عقود. فما عاشوه وشاهدوه منذ صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر يؤكد للفلسطينيين أنهم قادرون على جعل إسرائيل تدفع ثمن كل جرائمها التي ارتكبتها بحقهم وبحق آبائهم وأجدادهم ووطنهم. والأهم من ذلك هو أنه إذا استمرت إسرائيل بحربها المعلنة على القطاع فذلك يعني أعداداً كبيرة من القتلى الفلسطينيين (تجاوز الرقم الـ 500 قتيل فلسطيني اليوم الإثنين، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، ومن المؤكد أن العدد سوف يتضاعف). إن هذه الجولة الجديدة من العنف من شأنها أن تُلهب المشاعر الفلسطينية، حتى ولو كان الإسرائيليون وقسم كبير من المجتمع الدولي يعتقدون أن “حماس” هي التي بدأت الصراع. ومما يزيد من إحباط رد فعل إسرائيل هو مشكلة الرهائن. لا أحد يعرف عدد الرهائن الذين احتجزتهم الفصائل الفلسطينية (وربما تحتجز المزيد من الرهائن طالما ظل نشطاؤها نشطين). تقول “حماس” إنها تحتجز “العشرات” من الرهائن الإسرائيليين، وإن بعضهم مخبأون داخل إسرائيل نفسها. إن وجود رهائن إسرائيليين (بغض النظر عن عددهم) يمنح “حماس” والفصائل الفلسطينية الأخرى نفوذاً إستثنائياً غير مسبوق. الرهائن الإسرائيليون هم الكابوس الحقيقي للقادة الإسرائيليين اليوم. صحيح أن قوات العمليات الخاصة الإسرائيلية تتمتع بمهارات استخباراتية وميدانية عالية، لكن أي خطأ – حتى لو كان صغيراً – مثل غارة فاشلة، يمكن أن يؤدي إلى مقتل العديد من الرهائن. إن وجود رهائن إسرائيليين يشكل أيضاً دراما مستمرة على “مسرح” المواجهات الإسرائيلية الفلسطينية الراهنة (…). فقضية الرهائن ستبقى تحتل الصفحات الأولى من الصحف المحلية والعالمية، وصور الرهائن المذعورين وأسرهم الخائفين والجمهور المتعاطف معهم ستتحكم بنوع الإجراءات والقرارات الممكنة. وجود الرهائن يزيد من تعقيدات العمليات العسكرية. فعلى المستوى الاستراتيجي، تستطيع الفصائل الفلسطينية أن تهدد حياة الرهائن إذا توغلت إسرائيل في قطاع غزة أو هدَّدت بزعزعة قبضة “حماس” على السلطة بشكل أو بآخر. وعلى المستوى التكتيكي، فإن وجود رهائن إسرائيليين بيد مقاتلي الفصائل الفلسطينية داخل غزة وفي المباني الموجودة في المنطقة أو في أيدي المقاتلين يجعل العمليات أكثر صعوبة بكثير، حيث أن خطر قتل مدنيين أو عسكريين إسرائيليين سيكون حاضراً في كل عملية عسكرية إسرائيلية. استعادة الردع سيكون أحد أكبر التحديات التي تواجه إسرائيل من الآن وصاعداً هو كيفية استعادة “الردع”، أي القدرة على إقناع “حماس” وكافة الفصائل الفلسطينية بأنهم لا يستطيعون مهاجمة إسرائيل مرة أخرى، لأن الثمن الذي سيدفعونه سيكون باهظا للغاية، وكيفية القيام بذلك بطريقة مقبولة أخلاقياً وبما يضمن دعم الدول الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة. فأكثر ما يقلق القادة الإسرائيليون الآن هو أن “ردهم” سيبقى “ناعماً” مقارنة بما حققته الهجمات الفلسطينية الأخيرة. وهم أيضاً قلقون جداً من أن “الرد الناعم” سيشجع الفلسطينيين على تنفيذ المزيد من الهجمات، وسيجعل حزب الله، وإيران، وغيرهما من “الأعداء” ينظرون إلى إسرائيل على أنها ضعيفة (…). كي ينجح “الردع” على المدى الطويل، يجب التفكير في كيفية جعل “حماس” تبحث عن خيارات أخرى للحفاظ على شرعيتها السياسية، غير “معاداة إسرائيل” التي تستند إليها. في العادة، ينطوي “الردع” فقط على ثني الخصم؛ بطريقة أو بأخرى؛ عن القيام بعمل عدائي محتمل. ولكن إذا كان الخصم يعتقد أنه ليس لديه خيار آخر، يصبح “الردع” أكثر صعوبة. من الناحية النظرية، تستطيع إسرائيل، مثلاً، أن تمنح “حماس” المزيد من “الهامش” لحكم قطاع غزة وأن تعرض عليها دوراً أكبر في السياسة الفلسطينية. ومع ذلك، فإن هذه التنازلات ستجعل “حماس” أقوى، وإسرائيل نفسها غير مؤهلة – أكثر من أي وقت مضى – لأن تخوض مثل هذه المخاطر أو لكي تستوعب تداعيات قرار اتخاذ هكذا فرص.