منذ بدء الحرب وبدأ الاقتصاد الروسي يعاني من هجوم كثيف للعقوبات عليه، وأصبحت هذه العقوبات تهدد مكانته في صدارة الدول النامية للمنطقة وذات نسبة نمو عالي ولكن في النموذج الروسي بدأت الأمور تختلف عن باقي الاقتصادات المنضوية تحت العقوبات وبدأ المارد الروسي بقلب الطاولة على النظام الغربي.
بدأ النظام الروسي الاقتصادي بدعم من القوة الروسية العسكرية والسياسية بتفادي الضربات الغربية، وساعده كثيراً في ذلك ضعف القارة الأوروبية من ناحية الطاقة واعتمادها بشكل شبه تام على مصادر الطاقة العالمية وفي مقدمتها الغاز والنفط الروسي. واستغلت روسيا هذا الضعف بشكل كبير مدركة بعدم قدرة الطرف الغربي بالتخلص منها بهذه السهولة وبدأت تفرض شروطا في هذه الأسواق، ووصلت إلى المطالبة بأن يتم الدفع بالروبل الروسي مقابل صادراتها للغاز، واستعانت أيضا بجيرانها وحلفائها القدامى فشهدت الصادرات النفطية للصين تزايداً وارتفع بشكل ملحوظ شراء النفط الروسي وسط تخفيضات كبيرة مدعومة بارتفاع السعر العالمي للنفط، وحاولت أيضا إيجاد حلول لطرق الدفع والتعامل بين البلدان للحيلولة دون العقوبات الأمريكية كالتبادل بالذهب أو العملات المحلية للالتفاف على العقوبات وعدم قدرة البنك المركزي الأمريكي ووزارة الخزانة من تتبع المعاملات وفرض عقوبات على الشركات المتعاملة مع القطاع الروسي. فأصبح الروبل الروسي في وضع أفضل بكثير من بداية الحرب، واستطاع امتصاص الضربة الغربية لاقتصاده ولكن هل ستبقى العقوبات الغربية السلاح الوحيد وهل ستبقى بهذه الصورة أم ستكون هناك مفاجآت جديدة؟.
يقدر الاحتياطي المركزي الروسي بنحو 60%، بمعنى ان قيمته تزيد عن 640 مليار دولار لكن تم تجميدها، ولم تستطع روسيا الوصول اليه، وكذلك عدد من أكبر البنوك في روسيا من ضمنهم بنك (في تي بي) والذي يملك حوالي 15% من أصول القطاع المصرفي الروسي تم حظره من نظام المدفوعات الدولية سويفت وأكثر من 500 شركة عالمية انسحبت أو قامت بتجميد وإيقاف أنشطتها داخل الاقتصاد الروسي.
أما احتياطيات الذهب الروسي فان قيمتها تقترب من 140 مليار دولار، وايضا تم فرض عقوبات عليها لمنع روسيا، الاستفادة من هذه الاحتياطيات بالتبعية للحظر الأمريكي لواردات النفط والغاز الروسي. وفي 7 مارس 2022 تراجع الروبل أمام الدولار إلى 150 روبل مقابل الدولار، ويعد هذا أقل سعر له في التاريخ ولكن حاليا تغير الوضع حيث وصل سعر الروبل يوم 13 أبريل 2022 إلى 84 روبل مقابل الدولار، وهو سعر مقارب للسعر قبل الغزو.
ولكن كيف استطاعت روسيا تحقيق ذلك رغم العقوبات المفروضة عليها؟ هبوط العملة المحلية في روسيا، دفعها للقيام بالاتجاه نحو مسارين بالتوازي من أجل تعويم الروبل في أسرع وقت.
تمثل الاول برفع سعر الفائدة من 9.5% إلى 20% من أجل تشجيع الناس على امتلاك الروبل، وكذلك إلزام المصدرين الروسيين بتحويل 80% من عائداتهم من التصدير إلى الروبل وفرض حدود على السحب من الحسابات بالدولار، وأيضاً القرار الروسي الأخير وهو بيع الغاز للدول الأوربية بالروبل بدل اليورو مما أدى إلى تعزيز قوته أمام العملات الأخرى وقلل من الضغوط التي كانت موجودة على الاقتصاد الروسي من بداية الحرب.
وبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في 26 مارس 2022، ارتفع الناتج المحلي الاجمالي لروسيا بنسبة 5% مقارنة مع قيمته في مارس 2021، وأن النظام المصرفي الروسي ورغم خروج مجموعة من أكبر البنوك فيه من نظام سويفت، لا يزال متماسكاً وأيضاً التزام الحكومة الروسية بدفع أقساط ديونها بانتظام في موعدها. ولا ننسى مؤشر البورصة الروسية الرئيسي”MOEX” والذي انهار بعد الغزو، قام بتعويض جزء كبير من خسارته بعد التدخل الحكومي ومساندته ببعض الإجراءات مثل حظر البيع على المكشوف، ولكن رغم كل ذلك فإن العصب الرئيسي المغذي للاقتصاد الروسي، مما يجعله لا يسقط، هو بيع الغاز والنفط، حيث تبلغ نسبة المبيعات اليومية على أقل تقدير مليار دولار، ففي شهر مارس 2022 بلغت عائدات شركة الغاز الروسية “غازبروم” لوحدها من بيع الغاز حوالي 9.3 مليار دولار، فلذلك نستطيع أن نلاحظ تركيز التصريحات الغربية في الآونة الأخيرة حول ضرورة منع روسيا تصدير الغاز والنفط. اما العقوبة الأهم والأكثر فعالية على روسيا ستظهر تداعياتها عند فرض أوروبا حظراً على استيراد الغاز والنفط الروسي.
وتقدر مشتريات أوروبا من النفط والغاز الروسي بحوالي 850 مليون دولار يومياً، ولكن اتخاذ مثل هذه الخطوة بدون بديل تبدو شبه مستحيلة لأوروبا لأنها ستتضرر أيضا من مثل هذا القرار، لأن حوالي ربع احتياطيات أوروبا من النفط و40% من الاحتياج الأوروبي للغاز يتم تأمينه من روسيا، ولذلك نجد دولة ألمانيا تعارض وبشدة حظر واردات أوروبا من النفط والغاز الروسي، حيث لا يوجد بديل سريع للواردات الروسية من أجل تأمين الاحتياجات الأوروبية للطاقة. لقد تأثر الاقتصاد الروسي بالعقوبات الامريكية وسيتضاعف لو استمرت لفترة أطول. حيث قامت حوالي 46 دولة بفرض عقوبات على روسيا ونصف السلع والخدمات التي تقوم روسيا باستيرادها من الخارج تأتي من هذه الدول ولم تجد روسيا بديلا لهذه السلع والخدمات، وفي وقت قصير ستواجه عدة مشاكل وآثار داخل اقتصادها إن لم تجد حلولاً. بدأت العقوبات تزيد من معدل البطالة، لأن جزءاً كبيراً من واردات روسيا عبارة عن مواد أولية تدخل في التصنيع المحلي. ولو نقصت هذه المواد سيؤدي ذلك إلى توقف المصانع عن العمل مما يفرض على العمال بهذه المصانع التوقف عن العمل. البطالة يمكن أن تظهر قريباً في قطاع الطيران الروسي، ويتكون أسطول شركات الطيران الروسية من طائرات بوينغ الأمريكية وإيرباص الأوروبية، وحالياً هاتان الشركتان قامتا بفرض عقوبات على روسيا بحرمانها من استيراد قطع غيار لهذه الطائرات وصيانتها. أصعب ما يواجه الاقتصاد الروسي من صعوبات بسبب العقوبات هي اعتماد الروس وبشكل كبير على الاستيراد.
ووفقا لبيان صادر عن البنك المركزي الروسي في منتصف شهر مارس 2021، يتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 20% والناتج المحلي الإجمالي سينكمش 8% خلال عام 2022. ولكن يمكن القول إن روسيا تستطيع السيطرة على هذه المشكلة وأنها قابلة للإدارة، وليست مشكلة ضخمة قد تقود الاقتصادي الروسي للانهيار وبسرعة، وذلك بفضل إيرادات بيع النفط والغاز والتي لم تستطيع الدول فرض عقوبات عليها. فالعائد من بيع النفط يقلل من حدة العقوبات وتعتبر درعاً اقتصادياً للاقتصاد الروسي.