الاتجاه - مقالات

حسني محلي / باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي

الاهتمام التركي بكازاخستان، وبإمكاناتها الاقتصادية، يحظى باهتمام العواصم الغربية التقليدية، وفي مقدمتها واشنطن وباريس ولندن وبرلين، والتي تتمنى لهذا التعاون أن يساهم لاحقاً في خلق المشاكل لروسيا في حديقتها الخلفية.

التقى، الجمعة الفائت، في مدينة سمرقند التاريخية الأوزبكستانية زعماء كل من تركيا وكازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان وقرغيزيا، الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية، بمشاركة رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان ورئيس برلمان تركمانستان، البلدين العضوين في المنظمة، بصفة مراقب. 

القمة هي التاسعة منذ تشكيل منظمة الدول الناطقة باللغة التركية، والتي اجتمعت لأول مرة في أنقرة في تشرين الأول/أكتوبر 1992، بناءً على دعوة الرئيس الراحل تورغوت أوزال، الذي استغل سقوط الاتحاد السوفياتي، ورفع شعار "أمة ودولة تركية واحدة من الأدرياتيكي إلى سد الصين الحصين".

وجاء خطاب الرئيس الكازاخستاني، قاسم توكاييف، في قمة الجمعة، ليؤكد هذه المقولة، بحيث تحدّث "عن ضرورة تحقيق نقلة نوعية في التعاون بين دول المنظمة، والارتقاء به". وقال إنه "يجب أن نصبح قوة فعالة، إقليمياً ودولياً، ويجب أن نتضامن من أجل مواجهة جميع التحديات والتهديدات بصورة مشتركة".

كلام توكاييف هذا أكده الرئيس إردوغان والزعماء الآخرون، الذين تحدثوا في الجلسة الافتتاحية للقمة، مع الإشارة إلى الأهمية الخاصة والمميزة لتركيا وكازاخستان، باعتبار أن البلدين مهمان جغرافياً وسكانياً، وهو ما يفسّر الزيارات المتبادلة بين إردوغان وتوكاييف، خلال الأشهر الماضية، وخصوصاً بعد الأحداث التي شهدتها كازاخستان في كانون الثاني/يناير، وتمّت السيطرة عليها بعد تدخل القوات الروسية في إطار اتفاقية دول منظمة الدفاع المشترك، وهو ما استغلّه توكاييف من أجل إطاحة الرئيس نور سلطان نزارباييف واستلام السلطة دستورياً بعد انتخابات حزيران/يونيو الماضي.

الاهتمام التركي بكازاخستان، وبإمكاناتها الاقتصادية، وخصوصاً أن لها حدوداً برية طولها 6800 كم مع روسيا، و1500 كم مع الصين، و3700 كم مع كل من تركمانستان وقرغيزيا وأوزبكستان، يحظى، في الوقت نفسه، باهتمام العواصم الغربية التقليدية، وفي مقدمتها واشنطن وباريس ولندن وبرلين، والتي تتمنى لهذا التعاون أن يساهم لاحقاً في خلق المشاكل لروسيا في حديقتها الخلفية، وهو ما فعلته قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، عبر نظرية "الحزام الأخضر" التي صاغها كيسنجر وبريجينسكي، إذ يعرف الجميع أن دغدغة المشاعر القومية لدى شعوب هذه الدول وقياداتها، البعيدة عن النهج الديني بسبب التربية والنشأة السوفياتيتين، قد تساعد العواصم المذكورة، ومعها أنقرة، على رفع معنويات الأقليات المسلمة وذات الأصل التركي في جمهوريات الحكم الذاتي داخل روسيا الفدرالية الحالية، ومجموع سكانها نحو عشرين مليون، وأهمهم الشيشان الذين يحظون باهتمام خاص من الرئيس بوتين، عبر صداقته الشخصية مع الرئيس قديروف، في الوقت الذي تراقب بكين أيضاً كل هذه التحركات القريبة من حدودها، بحيث يعيش في أراضيها نحو عشرين مليوناً (البعض يقول 40 مليوناً) من مسلمي الأويغور، وهم أيضاً من أصل تركي، بل هم أصل الأتراك، وفق بعض النظريات. 

دفعت كل هذه المعطيات أنقرة، التي تحتفل بمرور ثلاثين عاماً على القمة الأولى، إلى الاهتمام المكثّف والشامل بعلاقاتها بالجمهوريات المذكورة، التي أقامت شبكة واسعة من العلاقات في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، والأهم من كل ذلك الاجتماعية والثقافية، بحيث تخطط من أجل مساعدة العواصم المذكورة عبر استخدام الأبجدية التركية بصورة رسمية، بعد أن قامت تركيا، خلال الأعوام الماضية، بتدريس الآلاف من الشبان والعاملين في هذه الدول وتخريجهم وتدريبهم في الجامعات والمعاهد والمؤسسات التركية، بينما نجحت المسلسلات التركية، وخصوصاً التاريخية منها، من خلال طابعها، قومياً ودينياً وعاطفياً، في تعليم اللغة التركية لشعوب هذه الدول. ويقيم مئات الآلاف من مواطنيها في تركيا، حيث يعملون في مجالات متعدّدة. 

في الوقت نفسه، يعرف الجميع أنه مع وجود "الثقة المتبادلة"، والتي قال الرئيس إردوغان إنها موجودة بينه وبين الرئيس بوتين، فإن الأوساط السياسية والاقتصادية التركية تتحدّث عن دعمه المباشر وغير المباشر لإردوغان، مع اقتراب موعد الانتخابات في أيار/مايو المقبل. ويتم كل ذلك في ظل غياب الحديث عن أي مشاكل في العلاقة بين موسكو وأنقرة بشأن سوريا، وعلى الرغم من تناقض الحسابات الروسية والتركية في منطقة القوقاز، حيث يسعى كِلا الطرفين للإمساك بزمام الأمور في المنطقة، من خلال كسب أرمينيا إلى جانبه. وتأتي مشاركة رئيس وزراء هنغاريا أوربان، الذي يفتخر بأصوله التركية، في القمة، كقاسم مشترك بين بوتين وإردوغان، ولكليهما علاقات مميزة به، حاله حال الرئيس الصربي فوتشيتش، بحيث يتصدى هو الآخر، كأوربان، للمخططات والمشاريع والعقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا. واتخذ إردوغان عدداً من المواقف، التي عدّها البعض منحازة إلى جانب روسيا على الرغم من اتفاقيات التعاون العسكري بين أنقرة وكييف، التي ما زالت تشتري المسيّرات من تركيا.

في نهاية المطاف، يبقى الرهان على المقولة التي تقول "إن التاريخ يكرّر نفسه"، مع أن كاتب النشيد الوطني التركي، محمد عاكف، كان قال إنه "لو استُخلصت الدروس منه لما كرر نفسه". فالتاريخ يتحدث عن نحو 450 عاماً من الخلافات والنزاعات والصراعات والحروب بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية. وبعدها، تحوّلت تركيا، عبر انضمامها إلى الحلف عام 1952، إلى خندق أمامي للدفاع عن الغرب ضد الشيوعية، وبعد أن نسي الجميع في أنقرة أنه لولا دعم الشيوعي لينين لمصطفى كمال أتاتورك، خلال حرب الاستقلال في الفترة 1919-1923، لَما استطاع أن يطرد المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين واليونانيين، ومن خلفهم اميركا، وهم جميعاً الآن حلفاء الأتراك في الحلف الذي يوجد له في تركيا عشرات القواعد، بقنابلها النووية.

كل هذه المعطيات كافية، بالنسبة إلى كل الأطراف الإقليمية والدولية في تعاملاتها مع الرئيس إردوغان، الذي نجح حتى الآن في استغلال تناقضات الأطراف المذكورة، وكل منها يتصيّد الفرص ضد الطرف الآخر، ما دامت المصالح هي التي تحدّد المضمون والمسار للسياسات، رسمياً وشخصياً، كما هي الحال بين بوتين وإردوغان، الذي أثبتت الأعوام الأخيرة أنه المستفيد الأكبر من هذه العلاقة، التي لا يدري أحد ما يخطط بوتين من أجلها، الآن ومستقبلاً!